هل السلام وهم؟ عنف الصراع وغريزة الهيمنة في عالم الأمم المتحدة.
المؤلف: طلال صالح بنان11.26.2025

ممّا لا شك فيه أن تاريخ البشرية يشهد على حقيقة مُرّة، وهي أن النزعة نحو العنف غالباً ما تطغى على المساعي الحميدة نحو السلام. يبدو أن الإنسان يميل بفطرته إلى اختبار حدود الردع، بدلاً من الانصياع إلى منطق الاستقرار. هذه الحقيقة قد تعكس طبيعة الإنسان الجدلية، بين الخير والشر، حيث يرى العديد من الفلاسفة أن الإنسان أقرب إلى الانجرار إلى الصراعات وإغراءات القوة، بدلاً من التمسك بالسلام، ممّا يستدعي إعمال الحكمة والبصيرة لإيجاد مساراتٍ مُجديةٍ نحو السلام.
ومن المفارقات الجليّة أن أحد أهم الشروط للانضمام إلى منظومة الأمم المتحدة، التي تُمثل مجتمع الدول الحديث، هو التزام الدول الأعضاء بالسلام، قولاً وفعلاً، والسعي لحل الخلافات بالطرق السلمية، وتجنب أي شكل من أشكال العنف أو التهديد باستخدامه. هذه النظرة، وإن كانت مثالية، تبدو غير واقعية بالنظر إلى طبيعة الدولة القومية الحديثة، وتاريخ الحروب والصراعات الدامية، ممّا يُعيد إلى الأذهان تجربة عصبة الأمم (1919-1939) وما آلت إليه من فشل في منع تكرار المآسي.
إن استقرار نظام الأمم المتحدة، ظاهرياً، مقارنةً بعصبة الأمم، لا يعود بالضرورة إلى ما يدّعيه "دعاة السلام"، بل يعود بشكل أساسي إلى الخوف من العواقب الوخيمة لاستخدام أسلحة وآليات الصراع المتطورة وغير التقليدية، التي تعتمد على حساباتٍ مُعقدةٍ وغير مضمونة النتائج. فالرعب من الوقوع في أخطاء فادحة وتقديرات غير عقلانية هو ما يُبقي الأمور تحت السيطرة. وبالتالي، فإن السلام الظاهري الذي نشهده اليوم، هو في جوهره نتاج للتقدم الهائل في تكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها الأسلحة النووية. المعضلة الأساسية هنا لا تكمن في الرومانسية المفرطة للسلام، بل في الواقعية القائمة على كسر حاجز الخوف، نتيجة للإغراء الفطري بالصراع، والثقة المفرطة في قدرة آليات العنف التاريخية على تحقيق التوازن المنشود، الذي يؤدي إلى سلام قسري عملي ودائم، ناتج عن توازن قوى راسخ ومتين.
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن نظام الأمم المتحدة بمنأى عن مظاهر عدم الاستقرار الخطيرة. فالحقيقة أنه نظام محفوف بالمخاطر، ويقتصر تحكمه على إدارة العلاقات بين الدول العظمى، بشكل مؤقت، للحيلولة دون اندلاع حروب مباشرة بينها، قد تخرج عن السيطرة وتتجاوز القدرة على التحكم في مسارها ونتائجها، أو حتى ضمان النصر فيها، أو وضع نهاية لها بإرادة الأطراف المتنازعة.
وعلى الصعيد العالمي، شهِد العالم فترة الحرب الباردة، التي كانت تنطوي على تهديد حقيقي باندلاع حرب ساخنة، أكثر من الاعتماد على الدبلوماسية في إدارة الصراعات. كانت تلك الفترة بمثابة حروب باردة، ظاهرها تجنب المواجهة المباشرة، ولكنها تخفي رغبة دفينة في اختبار قوة الخصم. حروب محدودة في مناطق التماس الاستراتيجية، بدلاً من محاولات جادة لخوض حروب شاملة، قد تتطور إلى دمار شامل متبادل.
لذا، كانت احتمالات نشوب الصدام تلوح في الأفق باستمرار، أكثر من فرص الحفاظ على السلام. كان الشك والريبة وعدم الثقة هي السمة الغالبة، بينما تغيب إمكانات التعاون والتكامل. كان الإنفاق العسكري سخياً على احتمالات الصراع العنيف، بينما كانت مسارات السلام تسير في نفق مظلم. كان التفكير مُنصباً على عقيدة الضربة الأولى الساحقة الماحقة، وليس في ضمان تفادي الضربة الثانية. كان الهم الشاغل هو النجاة من حرب عالمية ثالثة، وليس منع وقوعها. لقد نسي الجميع مقولة ألبرت أينشتاين الشهيرة (1879-1955): "لو نشبت حرب عالمية ثالثة، فإن الحرب العالمية الرابعة ستكون أسلحتها العصي والحجارة".
خلال فترة الحرب الباردة، لم تنجح استراتيجيات الاحتواء بشكل كامل، ولم تكن تكتيكات الاختراق مستحيلة. كانت الصراعات محتدمة على أطراف نفوذ كل قطب دولي رئيس، وكانت الاختراقات تحدث في قلب مناطق سيطرة كل طرف. منطقة الشرق الأوسط كانت من أكثر المناطق توتراً خلال الحرب الباردة، حيث سعى كلا العملاقين إلى بسط نفوذه عليها، وإن لم يتورطا بالضرورة في احتكاك مباشر وعنيف بينهما.
في ظل الحرب الباردة، كان هناك تقسيم غير رسمي ومتوازن لمنطقة الشرق الأوسط بين واشنطن وموسكو، تحكمه قواعد الاشتباك والتخوف المتبادل من تجاوز الخطوط الحمراء المتفق عليها. كانت واشنطن تسعى للسيطرة على النفط، بينما لم يكن الاتحاد السوفيتي يرضى بأقل من التواجد الفعلي في المنطقة، فكان له موطئ قدم في اليمن وسورية والعراق ومصر، طمعاً في التواجد الاستراتيجي في المياه الدافئة. أحياناً، كان تصاعد التوتر يبلغ ذروته، ولكن يتم احتواء الموقف بحذر شديد، حتى لا تنفلت الأمور عن السيطرة. وشهدت المنطقة حروباً عديدة، مثل حروب 1948، 1956، 1967، و1973 بين العرب وإسرائيل. وفي جميع هذه الحروب، نجح القطبان الكبيران في تجنب الانجرار إلى المشاركة فيها بصورة مباشرة.
في المقابل، وعلى تخوم حدود القوتين العظميين في أوروبا الشرقية، اندلعت أعمال عنف خطيرة في المجر عام 1956، وأخرى في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. هذا فضلاً عن الحروب التقليدية المحدودة التي تورط فيها أحد القطبين، بصورة مباشرة، في كوريا وفيتنام وأفغانستان. ولم يشأ نظام الحرب الباردة أن يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا على شواطئ الخليج العربي، حيث النفط والثروات التي لا تُحصى.
باختصار، لم يتمكن نظام الأمم المتحدة من تحقيق سلام حقيقي، ولم ينجح في إرساء توازن دقيق. لقد سادت فترة الحرب الباردة رغبة في التحرر من قيود الردع المتبادل غير التقليدي، أكثر من الطموح إلى تحقيق سلام دائم وشامل. لم يفلح نظام الأمم المتحدة في إنهاء الصراعات القطبية، ولم يتمكن من الحفاظ على السلام في مناطق عديدة من العالم، ولم يمنع التفكير في عقيدة الضربة النووية الأولى، وإمكانية تفادي الضربة النووية الثانية. ومع ذلك، فقد نجح، حتى الآن، في تجنب اندلاع حرب عالمية ثالثة، لا تبقي ولا تذر.
ومن المفارقات الجليّة أن أحد أهم الشروط للانضمام إلى منظومة الأمم المتحدة، التي تُمثل مجتمع الدول الحديث، هو التزام الدول الأعضاء بالسلام، قولاً وفعلاً، والسعي لحل الخلافات بالطرق السلمية، وتجنب أي شكل من أشكال العنف أو التهديد باستخدامه. هذه النظرة، وإن كانت مثالية، تبدو غير واقعية بالنظر إلى طبيعة الدولة القومية الحديثة، وتاريخ الحروب والصراعات الدامية، ممّا يُعيد إلى الأذهان تجربة عصبة الأمم (1919-1939) وما آلت إليه من فشل في منع تكرار المآسي.
إن استقرار نظام الأمم المتحدة، ظاهرياً، مقارنةً بعصبة الأمم، لا يعود بالضرورة إلى ما يدّعيه "دعاة السلام"، بل يعود بشكل أساسي إلى الخوف من العواقب الوخيمة لاستخدام أسلحة وآليات الصراع المتطورة وغير التقليدية، التي تعتمد على حساباتٍ مُعقدةٍ وغير مضمونة النتائج. فالرعب من الوقوع في أخطاء فادحة وتقديرات غير عقلانية هو ما يُبقي الأمور تحت السيطرة. وبالتالي، فإن السلام الظاهري الذي نشهده اليوم، هو في جوهره نتاج للتقدم الهائل في تكنولوجيا أسلحة الدمار الشامل، وعلى رأسها الأسلحة النووية. المعضلة الأساسية هنا لا تكمن في الرومانسية المفرطة للسلام، بل في الواقعية القائمة على كسر حاجز الخوف، نتيجة للإغراء الفطري بالصراع، والثقة المفرطة في قدرة آليات العنف التاريخية على تحقيق التوازن المنشود، الذي يؤدي إلى سلام قسري عملي ودائم، ناتج عن توازن قوى راسخ ومتين.
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن نظام الأمم المتحدة بمنأى عن مظاهر عدم الاستقرار الخطيرة. فالحقيقة أنه نظام محفوف بالمخاطر، ويقتصر تحكمه على إدارة العلاقات بين الدول العظمى، بشكل مؤقت، للحيلولة دون اندلاع حروب مباشرة بينها، قد تخرج عن السيطرة وتتجاوز القدرة على التحكم في مسارها ونتائجها، أو حتى ضمان النصر فيها، أو وضع نهاية لها بإرادة الأطراف المتنازعة.
وعلى الصعيد العالمي، شهِد العالم فترة الحرب الباردة، التي كانت تنطوي على تهديد حقيقي باندلاع حرب ساخنة، أكثر من الاعتماد على الدبلوماسية في إدارة الصراعات. كانت تلك الفترة بمثابة حروب باردة، ظاهرها تجنب المواجهة المباشرة، ولكنها تخفي رغبة دفينة في اختبار قوة الخصم. حروب محدودة في مناطق التماس الاستراتيجية، بدلاً من محاولات جادة لخوض حروب شاملة، قد تتطور إلى دمار شامل متبادل.
لذا، كانت احتمالات نشوب الصدام تلوح في الأفق باستمرار، أكثر من فرص الحفاظ على السلام. كان الشك والريبة وعدم الثقة هي السمة الغالبة، بينما تغيب إمكانات التعاون والتكامل. كان الإنفاق العسكري سخياً على احتمالات الصراع العنيف، بينما كانت مسارات السلام تسير في نفق مظلم. كان التفكير مُنصباً على عقيدة الضربة الأولى الساحقة الماحقة، وليس في ضمان تفادي الضربة الثانية. كان الهم الشاغل هو النجاة من حرب عالمية ثالثة، وليس منع وقوعها. لقد نسي الجميع مقولة ألبرت أينشتاين الشهيرة (1879-1955): "لو نشبت حرب عالمية ثالثة، فإن الحرب العالمية الرابعة ستكون أسلحتها العصي والحجارة".
خلال فترة الحرب الباردة، لم تنجح استراتيجيات الاحتواء بشكل كامل، ولم تكن تكتيكات الاختراق مستحيلة. كانت الصراعات محتدمة على أطراف نفوذ كل قطب دولي رئيس، وكانت الاختراقات تحدث في قلب مناطق سيطرة كل طرف. منطقة الشرق الأوسط كانت من أكثر المناطق توتراً خلال الحرب الباردة، حيث سعى كلا العملاقين إلى بسط نفوذه عليها، وإن لم يتورطا بالضرورة في احتكاك مباشر وعنيف بينهما.
في ظل الحرب الباردة، كان هناك تقسيم غير رسمي ومتوازن لمنطقة الشرق الأوسط بين واشنطن وموسكو، تحكمه قواعد الاشتباك والتخوف المتبادل من تجاوز الخطوط الحمراء المتفق عليها. كانت واشنطن تسعى للسيطرة على النفط، بينما لم يكن الاتحاد السوفيتي يرضى بأقل من التواجد الفعلي في المنطقة، فكان له موطئ قدم في اليمن وسورية والعراق ومصر، طمعاً في التواجد الاستراتيجي في المياه الدافئة. أحياناً، كان تصاعد التوتر يبلغ ذروته، ولكن يتم احتواء الموقف بحذر شديد، حتى لا تنفلت الأمور عن السيطرة. وشهدت المنطقة حروباً عديدة، مثل حروب 1948، 1956، 1967، و1973 بين العرب وإسرائيل. وفي جميع هذه الحروب، نجح القطبان الكبيران في تجنب الانجرار إلى المشاركة فيها بصورة مباشرة.
في المقابل، وعلى تخوم حدود القوتين العظميين في أوروبا الشرقية، اندلعت أعمال عنف خطيرة في المجر عام 1956، وأخرى في تشيكوسلوفاكيا عام 1968. هذا فضلاً عن الحروب التقليدية المحدودة التي تورط فيها أحد القطبين، بصورة مباشرة، في كوريا وفيتنام وأفغانستان. ولم يشأ نظام الحرب الباردة أن يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا على شواطئ الخليج العربي، حيث النفط والثروات التي لا تُحصى.
باختصار، لم يتمكن نظام الأمم المتحدة من تحقيق سلام حقيقي، ولم ينجح في إرساء توازن دقيق. لقد سادت فترة الحرب الباردة رغبة في التحرر من قيود الردع المتبادل غير التقليدي، أكثر من الطموح إلى تحقيق سلام دائم وشامل. لم يفلح نظام الأمم المتحدة في إنهاء الصراعات القطبية، ولم يتمكن من الحفاظ على السلام في مناطق عديدة من العالم، ولم يمنع التفكير في عقيدة الضربة النووية الأولى، وإمكانية تفادي الضربة النووية الثانية. ومع ذلك، فقد نجح، حتى الآن، في تجنب اندلاع حرب عالمية ثالثة، لا تبقي ولا تذر.
